
رغم أن الولادة تُعد من أجمل اللحظات في حياة المرأة، إلا أنها قد تترك خلفها جروحًا نفسية عميقة لا تُرى بالعين المجردة. ملايين النساء حول العالم يُصبن سنويًا باضطراب ما بعد الصدمة النفسي المرتبط بالولادة (Postnatal PTSD)، إلا أن الخجل والوصمة الاجتماعية تدفع الكثير منهن للصمت والمعاناة في الخفاء.
كوابيس لا تنتهي بعد الولادة
تقول إحدى الأمهات: "أستيقظ كل ليلة مفزوعة، جسدي يرتجف من شدة التوتر، أتنفس بصعوبة، وأُعيد في رأسي مشهد الولادة المؤلم مرارًا وتكرارًا". هذه المشاعر ليست مجرد ذكريات سيئة، بل هي أعراض حقيقية لاضطراب نفسي خطير يُصيب النساء بعد ولادة عسيرة أو صادمة.
ما هو اضطراب ما بعد الصدمة المرتبط بالولادة؟
هو نوع من اضطرابات القلق يحدث نتيجة تجارب ولادة صادمة، مثل فقدان السيطرة، أو مضاعفات طبية، أو شعور بالخطر على الحياة. قد تظهر الأعراض في شكل نوبات هلع، كوابيس، تذكّر مؤلم متكرر، تجنب الحديث عن الولادة، ومشاعر دائمة بالذنب أو الخوف.
رغم تشابه أعراضه مع اضطرابات القلق الأخرى، إلا أن ارتباطه بتجربة الولادة يجعل التعرف عليه وعلاجه أكثر تعقيدًا. الأبحاث تشير إلى أن حوالي 4% من الولادات تؤدي إلى هذا الاضطراب، وهي نسبة قد تبدو صغيرة، لكنها تعني ملايين النساء سنويًا.
لماذا لا يُعترف به بالشكل الكافي؟
حتى التسعينيات، لم يكن يُعترف بأن الولادة تُعد حدثًا "صادمًا" وفق المعايير النفسية التقليدية. لكن التحديثات الحديثة في التعريفات الطبية بدأت تُدرج الولادة ضمن المسببات المحتملة للاضطراب، خاصة إذا ترافقت مع تهديد للحياة أو فقدان السيطرة أو معاملة غير إنسانية من الطاقم الطبي.
التجربة المؤلمة: حين يتحول الدعم الطبي إلى صدمة
تشير شهادات العديد من الأمهات إلى أن غياب التعاطف من طاقم المستشفى كان العامل الأساسي في تطور الحالة. تقول إحدى الأمهات: "تمت معاملتي ببرود وقسوة، لم يخبرني أحد عن حالة طفلي الذي وُلد أزرق اللون، وتركوني لساعات أجهل إن كان حيًا أم لا."
الطبيبة النفسية إيما سفانبرغ تؤكد أن السبب الأكبر الذي تسمعه من النساء هو غياب "اللطف" في التعامل. هذه التفاصيل الصغيرة قد تصنع فارقًا كبيرًا بين التعافي والدمار النفسي.
من هن الأكثر عُرضة للإصابة؟
النساء اللاتي لديهن تاريخ سابق مع الصدمات النفسية أو الاعتداء أو القلق، أكثر عُرضة للإصابة بخمس مرات. أيضًا، النساء اللاتي يشعرن بفقدان السيطرة أو يتعرضن لتجربة ولادة طارئة أو عنيفة، يكنّ في خطر أعلى بكثير.
لماذا تبقى النساء صامتات؟
الخوف من الحكم، ومن أن يُنظر إليهن كأمهات فاشلات، أو من أن يُتّهمن بالجحود، يدفع العديد من النساء لإخفاء معاناتهن. بعضهن يتجنب الحديث حتى مع الزوج أو الأسرة، مما يؤدي إلى توتر العلاقات وتدهور الحالة النفسية.
تأثير الاضطراب على الأسرة والعلاقات
تشير الدراسات إلى أن اضطراب ما بعد الولادة لا يؤثر فقط على الأم، بل ينعكس على علاقتها بالرضيع، وقد يؤدي إلى رفض أولي للمولود، اضطرابات في العلاقة الزوجية، ضعف الروابط العاطفية، بل وفقدان الثقة في الذات كأم.
بعض النساء أُجبرن على ترك وظائفهن، أو عانين من انهيارات نفسية متكررة، كما هو حال إحدى الأمهات التي قالت: "لم أعد أستطيع العمل، زوجتي أصبحت مسؤولة عني، حياتنا انقلبت رأسًا على عقب."
الحلول الممكنة: هل من أمل في الشفاء؟
نعم. رغم صعوبة الوصول إلى العلاج، إلا أن الشفاء ممكن. العلاجات النفسية مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، وعلاج إعادة المعالجة بحركات العين (EMDR)، أثبتت فعاليتها. كذلك، توجد وسائل دعم بسيطة لكن فعّالة، مثل الاستماع، وإظهار التعاطف، وتمكين المرأة بالمعلومات خلال الحمل.
ما الذي يمكن فعله لتجنب الصدمة؟
- تدريب الطاقم الطبي على التعامل الإنساني والتواصل الفعّال.
- توفير الدعم النفسي قبل وبعد الولادة.
- نشر الوعي المجتمعي حول اضطراب ما بعد الولادة وكسره للوصمة.
- تشجيع النساء على الحديث والتعبير دون خوف من الحكم.
الختام: الولادة ليست مجرد لحظة، بل تجربة نفسية عميقة
في نهاية المطاف، الولادة ليست فقط لحظة مجيدة لاستقبال الحياة، بل يمكن أن تكون تجربة قاسية تترك ندوبًا طويلة. الاعتراف بمعاناة الأمهات هو أول خطوة نحو التعافي، ونحو بناء مجتمع يُقدّر صحة الأم النفسية بقدر ما يحتفي بالمولود الجديد.
المــــــــراجــــــع:
