بسم الله، وكأنما نعيش في زمن الالتباسات الكبرى! ذلك الزمن الذي اختلط فيه الحب الحقيقي بالتعلق المرضي، فصرنا كمن يبحث عن الماء في سراب الصحراء. كم من علاقات تبدأ كأغنية رومانسية وتنتهي كمسرحية مأساوية، يخرج منها الطرفان مثقلين بالجراح والأوهام!
الحب الناضج.. هذه العبارة التي صارت كطائر الفينيق، الجميع يتحدث عنه ولا أحد رآه! إنه ليس مجرد شعور عابر ولا انفعالاً لحظياً، بل هو قرار يومي بالاستمرار، وليس حاجة قهرية للامتلاك. هو ذلك الحب الصحي الذي يشبه الشجرة الوارفة، تظلل من تحتها دون أن تسأل عمن يستظل بظلها.
الفرق بين العطاء والاتكالية: مسرحية الأنا الخفية!
في الحب الناضج، تعطي كما تعطي النهر للمزارع، لا تنتظر شكراً ولا تقديراً. أما في الحب الاعتمادي، فأنت تاجر صغير في سوق النخاسة، تحسب كل نظرة وكلمة، وتضع مشاعرك في ميزان الحسابات الدقيقة!
الاعتمادي لا يحب الشخص، بل يحب الشعور الذي يمنحه إياه. كالمدمن الذي لا يهمه مصدر المخدر، المهم أن يخفف ألمه الوحشي. إنه يبحث عن شماعة يعلق عليها عجزه، لا عن شريك حقيقي في رحلة الحياة. هذا هو الفرق الجوهري بين التعلق العاطفي المرضي و الحب الصحي القائم على الاحترام المتبادل.
الحرية.. ذلك المفهوم المغيب في علاقاتنا العاطفية!
في الحب الصحي، تكون كالطائرين اللذين يحلقان في فضاء واحد، كل منهما حر وفي الوقت نفسه مرتبط برباط المودة والرحمة. أما في الحب الاعتمادي، فأنت السجان والسجين في آن واحد! سجان لأنك تسعى لاقتناص حرية شريكك، وسجين لأنك تدفع ثمن قيودك بأعصابك وروحك.
كم من بيوت في مجتمعاتنا تحولت إلى زنازين عاطفية، يتحكم فيها الخوف والغيرة والرغبة في السيطرة! يسمونها حباً وهي في الحقيقة أقرب إلى الامتلاك! إنه التعلق المؤذي الذي يشبه سرطاناً ينخر في جسد العلاقة حتى يدمرها تماماً.
لماذا تستمر هذه المسرحيات الهزلية في علاقاتنا؟
لأننا نخلط بين الحب والحاجة.. لأن فراغنا الداخلي يجعلنا نتشبث بأي قشة.. لأننا نفضل البقاء في جحيم مألوف على المجازفة نحو حرية مجهولة. العلاقات الاعتمادية تشبه إدمان الخمر، تعرف أنها تقتلك ولكنك لا تستطيع التوقف!
الوعي هو البداية.. أن تعترف أن ما تعيشه ليس حباً ناضجاً بل اعتماداً مرضياً. أن تدرك أن الحب الصحي لا يخنق بل يحرر، لا يضعفك بل يقويك، لا يجعلك عبداً بل شريكاً في بناء مملكة صغيرة اسمها السعادة.
الطريق من السجن إلى الحرية
الحب الناضج شجرة تزرعها يومياً بصبر وأناة، لا زهرة صيف تذبل بأول برد. هو رحلة نمو متبادل، لا سباق للسيطرة والهيمنة. أما الحب الاعتمادي فهو نار تلتهم كل شيء في طريقها، تبدأ بشرارة صغيرة وتنتهي بحريق هائل.
التحول من التعلق العاطفي إلى الحب الصحي يحتاج إلى شجاعة.. شجاعة مواجهة الذات، وشجاعة الاعتراف بالضعف، وشجاعة البناء من جديد. إنها معركة مع الأشباح التي تسكننا، مع الوحوش التي تربت في دهاليز نفوسنا.
ختاماً.. ليكن حبك تحريراً لا سجناً، عطاءً لا امتلاكاً، نمواً لا جموداً. فـ الحب الناضج هو ذلك الذي يجعلك أكثر حرية، لا أكثر قيوداً.. أكثر قوة، لا أكثر ضعفاً.. أكثر إشراقاً، لا أكثر ظلاماً. هو ذلك الحب الصحي الذي يشبه النهر الجاري، يروي دون أن يغرق، ويعطي دون أن ينتظر.